أسباب فن التبرير

فن التبرير من الظواهر النفسية والسلوكية التي تستحوذ على اهتمام العلماء والباحثين في مجالات علم النفس والاجتماع والسلوك الإنساني. يُعرف التبرير بأنه محاولة عقلانية لإيجاد أسباب أو مبررات لسلوك أو موقف معين، خاصة عندما يتعارض هذا السلوك أو الموقف مع القيم أو المعايير الاجتماعية أو الذاتية. يعد التبرير وسيلة يلتجئ إليها الإنسان لتخفيف شعور الذنب أو التوتر الناتج عن فعل معين، أو لتبرير قرار اتخذه حتى وإن كان غير مبرر منطقياً. تكمن أهمية دراسة أسباب فن التبرير في فهم دوافع الإنسان الداخلية وكيفية تعامله مع صراعاته النفسية والاجتماعية، بالإضافة إلى دور التبرير في تشكيل السلوكيات الفردية والجماعية.

طبيعة فن التبرير

قبل الخوض في أسباب فن التبرير، من الضروري التعرف على طبيعته الأساسية. التبرير عملية عقلية تتسم بأنها دفاع نفسي يتمثل في إقناع النفس أو الآخرين بصحة فعل أو موقف معين. تساهم هذه العملية في حماية الذات من الصراعات الداخلية الناتجة عن الشعور بالذنب، الندم، أو الشعور بالنقص. يمكن اعتبار التبرير آلية توازن بين الواقع والمثالية التي يحملها الفرد في ذهنه، إذ يعمل على تقليل التوتر الناتج عن تعارض القيم والمواقف.

الأسباب النفسية لفن التبرير

1. الحاجة إلى الحفاظ على صورة الذات
   
   الإنسان بطبيعته يسعى إلى بناء صورة إيجابية عن نفسه، وهذه الصورة تتعرض للتهديد عندما يصدر منه سلوك سلبي أو قرار خاطئ. هنا يظهر التبرير كآلية دفاع نفسية تحمي الذات من الانهيار النفسي أو الإحساس بالدونية. من خلال تبرير الأفعال، يستطيع الفرد المحافظة على توازنه النفسي ومشاعر الثقة بالنفس، مهما كانت أفعاله غير صحيحة أو غير أخلاقية.

2. تخفيف الشعور بالذنب والندم
   
   الذنب والندم من المشاعر المؤلمة التي قد تصاحب الأفعال التي تتعارض مع الضمير أو الأخلاق. يلجأ الإنسان إلى التبرير كطريقة لتخفيف هذا الشعور السلبي، من خلال خلق أسباب منطقية أو مبررات مقبولة تسمح له بتبرئة نفسه. بالتالي، يتحول التبرير إلى وسيلة تلطيفية تقلل من الضغط النفسي الناتج عن الذنب.

3. تجنب الصراع النفسي الداخلي
   
   الصراع النفسي الداخلي ينشأ من التعارض بين ما يريده الفرد وما يراه صحيحاً أخلاقياً أو اجتماعياً. التبرير يسمح للفرد بتجاوز هذا الصراع، من خلال تقديم مبررات تدعم أفعاله وتقلل من التوتر الناتج عن التنافر المعرفي، حيث يشعر الفرد بعدم الانسجام بين معتقداته وأفعاله.

4. الرغبة في تقليل التوتر النفسي
   
   التوتر النفسي يمكن أن ينجم عن مواقف ضاغطة أو قرارات صعبة. التبرير يلعب دوراً مهماً في تقليل هذا التوتر عن طريق خلق أسباب منطقية تفسر السلوكيات والأفعال، مما يساعد على تهدئة الحالة النفسية ويجعل الفرد يشعر أنه في وضع مقبول أو مبرر.

الأسباب الاجتماعية لفن التبرير

1. التكيف مع الضغوط الاجتماعية
   
   يعيش الإنسان ضمن منظومة اجتماعية تحكمها قواعد وقيم صارمة. عندما يخالف الفرد هذه القواعد، قد يتعرض للنقد أو الرفض الاجتماعي. التبرير هنا يعمل كآلية دفاع اجتماعية تساعد الفرد على تبرير أفعاله أمام الآخرين، وبالتالي تجنب النزاعات الاجتماعية وحماية مكانته ضمن الجماعة.

2. الرغبة في القبول الاجتماعي
   
   الإنسان كائن اجتماعي بطبعه يسعى إلى الانتماء والقبول. التبرير يمكن أن يكون وسيلة لتحسين صورة الفرد أمام الآخرين، إذ يقدم تفسيرات مقبولة لأفعاله تضمن استمرار القبول الاجتماعي، حتى لو كانت أفعاله تتعارض مع المعايير الاجتماعية.

3. الضغط الجماعي وتأثيره
   
   في بعض الأحيان، تكون الأفعال التي تحتاج إلى تبرير ناتجة عن تأثيرات جماعية أو ضغوط من المحيط الاجتماعي. هنا، يظهر التبرير كاستجابة اجتماعية لفهم وتفسير تلك الأفعال التي قد لا تكون نابعة من قناعات فردية صرفة، بل نتيجة لضغوط جماعية تتطلب توضيحاً أو تبريراً للذات.

4. الحفاظ على العلاقات الاجتماعية
   
   التبرير يساعد في الحفاظ على العلاقات الاجتماعية من خلال تقديم مبررات مقنعة قد تمنع حدوث نزاعات أو سوء تفاهم بين الأفراد. بدلاً من المواجهة أو النزاع، يلجأ الأفراد إلى التبرير كآلية تواصلية تسهم في تهدئة التوترات بين الأفراد والجماعات.

الأسباب المعرفية لفن التبرير

1. التنافر المعرفي
   
   يحدث التنافر المعرفي عندما تتعارض المعتقدات أو القيم مع الأفعال التي يقوم بها الفرد. يعد التبرير رد فعل ذهني يحاول تقليل هذا التنافر من خلال تعديل تفسير الأفعال أو تقديم أسباب تجعل الأفعال متوافقة مع القيم والمعتقدات، مما يعيد التوازن المعرفي للذات.

2. الرغبة في الحفاظ على الاتساق الداخلي
   
   يميل الإنسان إلى الحفاظ على اتساق داخلي بين معتقداته وسلوكياته. عندما يفقد هذا الاتساق، تظهر الحاجة إلى التبرير لتعديل فهمه للأفعال بحيث تبدو متسقة مع ذاته ومعتقداته السابقة.

3. تعزيز الشعور بالسيطرة
   
   التبرير يعطي الفرد إحساساً بأنه يمتلك السيطرة على موقفه، حتى وإن كانت الأمور خارجة عن إرادته. من خلال تبرير الأفعال، يشعر الفرد أنه يفهم الأسباب والدوافع، مما يعزز شعوره بالتحكم في حياته.

4. تفسير النتائج الغير متوقعة
   
   حين تواجه الفرد نتائج غير متوقعة أو سلبية، يلجأ إلى التبرير كوسيلة لتفسير هذه النتائج، مما يساعد في تقليل الإحباط ويجعل الواقع أكثر قابلية للفهم والتقبل.

أسباب ثقافية وفلسفية

1. الثقافة وتأثيرها على مفهوم التبرير
   
   تختلف آليات التبرير باختلاف الثقافات. في بعض الثقافات، يكون التبرير مرتبطاً بقيم العائلة والشرف، بينما في ثقافات أخرى يركز على الفردانية والحقوق الشخصية. الثقافة تشكل الطريقة التي يفهم بها الفرد ضرورة التبرير وكيفية التعبير عنه.

2. التبرير كجزء من فلسفة الذات
   
   من منظور فلسفي، التبرير يعكس محاولة الإنسان لإضفاء معنى على أفعاله وحياته. هو وسيلة لتقديم تفسير عقلاني للأفعال، مما يساعد الفرد على بناء سرد ذاتي متماسك عن حياته وأفعاله.

العلاقة بين التبرير والوعي الذاتي

التبرير مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمستوى الوعي الذاتي للفرد. فكلما زاد وعي الإنسان بذاته وبأفعاله، كلما زادت قدرته على تقديم تبريرات أكثر تعقيداً ومنطقية. يتيح الوعي الذاتي للفرد فهم دوافعه بشكل أعمق، وبالتالي استخدام التبرير كأداة تنظيمية تساعده في التعامل مع المواقف المعقدة.

تأثيرات فن التبرير على السلوك الإنساني

التبرير له تأثيرات متباينة على سلوك الإنسان، منها الإيجابي ومنها السلبي:

• التأثير الإيجابي:
  
  يعمل التبرير كآلية تساعد الإنسان على تجاوز الأزمات النفسية والاجتماعية، مما يمنحه القدرة على الاستمرار في الحياة بدون الانغماس في الشعور بالذنب أو القلق المفرط. كما يعزز التبرير من قدرة الفرد على التكيف الاجتماعي ويخفف من حدة النزاعات الاجتماعية.

• التأثير السلبي:
  
  عندما يصبح التبرير مفرطاً أو متكرراً، قد يؤدي إلى تبرير الأفعال السلبية أو الخاطئة، مما يضعف من تحمل المسؤولية ويزيد من سوء السلوكيات. كما قد يساهم التبرير في إدامة المشكلات النفسية والاجتماعية بسبب رفض مواجهة الواقع بشكل مباشر.

الجدول التالي يوضح بعض أنواع التبرير وأسبابها وتأثيراتها:

الخلاصة

فن التبرير هو آلية نفسية واجتماعية ومعرفية تستخدمها النفس البشرية لحماية الذات من الصراعات والتوترات الداخلية والاجتماعية. تنبع أسباب التبرير من الحاجة للحفاظ على صورة الذات، تخفيف الشعور بالذنب، التكيف مع الضغوط الاجتماعية، والحفاظ على الاتساق المعرفي. على الرغم من الفوائد التي يقدمها التبرير في التخفيف من التوتر النفسي والاجتماعي، إلا أن الإفراط في استخدامه قد يؤدي إلى نتائج سلبية مثل إنكار المسؤولية وتعزيز السلوكيات السلبية. بالتالي، يعد فهم أسباب فن التبرير خطوة أساسية لفهم السلوك الإنساني وتعزيز التوازن النفسي والاجتماعي.

المراجع:

1. Festinger, L. (1957). A Theory of Cognitive Dissonance. Stanford University Press.

2. Baumeister, R. F. (1997). Self-esteem: The Puzzle of Low Self-regard. Plenum Press.